mercredi 1 juin 2016

كانْ وبعد، حول السينما العربية 1




شاهدنا منذ سنوات قليلة تطورا في حضور السينما العربية في كانْ، وجاء هذا التطور نتيجةً لانفتاح المهرجان على السينما العالمية عند بعث القرية العالمية سنة 2000 الذي مانفك يتطور من دورة إلى أخرى. كما لاحظنا بعضَ الإهتمام منذ ما سُميّ بالربيع العربي، ولكنّه اهتمامٌ نسبيٌّ جدّا يفتقد للحماس ولمعرفة حقيقية لواقع السينما العربية. من الواضح أنّ هذا التوجُّـهَ كان مرتبطا بتطور سوق الأفلام وباعتبارات جيو استراتيجية. من هنا تأتي ردود فعل عديدِ (لاَ كلِّ) السينمائيين العرب الذين لم يدركوا أن إهتمام المهرجان بالسينما الآسيوية مثلا جاء نتيجةً لتطور الصناعة والتجارة في كوريا وإيران والصين وللأوضاع التي عرفتها هذه المنطقة ولم تكن كما يعتقد البعض  غايتُه الوحيدة متابعةً لتطور الفن السينمائي. لذلك نلاحظ عدم الإكتراث بأعمال نَـعرفُ نحن متابعو هذه السينما مستوى جودتها الفنية التي تفوق بكثير ما يُبرمج في مهرجان كانْ. 

لذلك كانت مصر في الصدارة هذه السنة من خلال « اشتباك » الذي  افتتح قسمَ « نظرة ما » وهو شرف كبير إذ يمثل قسم « نظرة ما » ثاني الأقسام الرسمية. محمد ذياب مخرج وكاتب سيناريو ينتمي إلى الجيل الجديد، ثبتت قيمتُـه خاصة مع « 678 ».  يتحلى فيلم « اشتباك » بميزاتٍ عديدة ساهمت بدون شك في اِختياره. موضوعه أولا : منذ « ثورة يناير » أضحى الوضعُ السياسي في مصر محلَّ اهتمام وقد عرض مهرجان كانْ مباشرة ابّان الأحداث شريطَ « 18 يوم » سنة 2011 ثم « بعد الموقعة » ليسري نصر الله سنة 2013، فباختياره « اشتباك » قد واكب المهرجان تسجيلَ السينما المصرية لمجريات الأحداث إذ تدورُ القصّة بُعيد سقوط نظام محمد مرسي. الميزة الثانية للفيلم تكمن في الأداء السينمائي : تدور جلّ الأحداث داخل عربة ترحيلات تابعة للشرطة وعلى الرغم من ذلك تمكن المخرج من تجاوز كل صعاب التصوير خاصة أن التحدي كان مزدوجا. فعلاوة على ضيق المكان كانت الشخصيات متعددة. فلا شك أن لجنة الإنتقاء قدّرت براعة المخرج في تعامله مع هذين الأمرين.



ولكن وجب هنا الوقوف قليلا لا للتقليل من أهمية العمل وممّا يستحقّه من تقدير ولكن لإبداء ملاحظة تتجاوز « اشتباك » في حدّ ذاته وتتعلق بالسينما ككل في بلادنا. البراعةُ لازمةٌ ومستحسنة أي لا يمكن الاِستهانة بامتلاك التقنيات وبالقدرة على استخدامها. هذا أمرٌ لا جدال فيه بل وجب الحرص عليه في مدارس السينما وفي الورشات التكوينية وفي كل فضاءات التعليم والتدريب. ولكن عملية الإبداع بمعنى ابتكار الأشكال المناسبة للتعبير عن فكرةٍ ما تخضعُ في رأينا إلى معادلة أخرى لا تقتصرُ على المهارة بل تكون المهارة فيها أمرا طبيعيا تأتي في الشكل المناسب، بارزا كان أو خفيّا، ليعطي لهذه الفكرة أعلى درجة من التعبيرية. اختار محمد ذياب مسألة سياسية وهي علاقة الناس ببعضهم البعض عندما يختلفون أيديولوجيا تحت ضغط الأحداث، اختار إختبار الجانب الإنساني على محك التوتر السياسي وهو موضوع في غاية من الأهمية. لمّا وضع هاته المجموعة من الرجال والنساء في حالة درامية قصوى أراد ذياب مساءلة الذات البشرية في عمقها بعيدا على الكليشيهات التي تفرضها علينا السياسة والأيديولوجيا كما يحدث الآن في العديد من البلدان التي تعيش تحولات سياسية. فكان السيناريو مبنيا على المراوحة بين لحظات الجدل السياسي السطحي والتواصل البشري وما يحتويه من مشاعر وأحاسيس يمكن أن تُـبين امكانيةَ الروابط العميقة التي تُأسّس للتعايش. هذا رهان فكري راقٍ يستحق التنويه ولكن مع الأسف اكتشاف المخرج لقدراته في المكوث بالكاميرا أكثر وقت ممكن داخل السيارة لتتبع ما يجري بين الأشخاص من ردود فعل إزاء ضغط الشارع، اكتشافه لقدراته وإدراكه لنجاحه أدى به إلى التغافل على مواصلة الغوص في فكرته الأساسية والسقوط في إعادة الوضعيات - وان اختلفت قليلا - التي تجعله يلتجيء لتلك المهارات بل قاده ذلك مع الأسف إلى تبسيط المسألة السياسية إلى درجة أصبحت أحيانا مجرد لعبة فتحولت مشاهدُ العنف في الشارع إلى فرجة للشماريخ. النتيجة هو أن المهارة الشكلية قد تأدي إلى فقدان النوايا الأولية… والنشوة الناتجة عن نجاح العملية التقنية يمكن أن تضفي إلى نتائج عكسية.

الفلم الثاني فلسطيني وهو « أمور شخصية » لمها الحاج وهي مخرجة فلسطينية تعيش تحت دولة اسرائيل. أول مشكلة يتعرض لها الفيلم هي مشكلة الهوية، فهو يحمل رسميا الجنسية الإسرائيلية وهكذا قُـدّم في مهرجان كانْ. ولكنه يحكي قصّة فلسطينية بحتة. هنا تتقاطع السياسة مع الفن، ما يجرنا إلى طرح قضية الهوية في السينما وفي الفن بصورة عامة. ليس يتعلق الأمر بالسينما الفلسطينية فقط فكم من مرة طُرح السؤال في العديد من المهرجانات العربية حيث تضاربت الآراء دون اِعتبارٍ لتداخل الأطراف في عملية الإنتاج. ولكن طبعا تأخذ مسألة السينما الفلسطينية طابعا خاصا بالنظر إلى تعقّد القضية. النتيجة هي أن الهوية الرسمية لهذا النوع من الأفلام تتغير من بلد إلى آخر وتجعل تخمينات النقاد ذوي الآفاق الذيّقة تدور في حلقة مفرغة لا طائل منها والحال أن الفن يرسُم حدودا خاصة به لا تتطابق بالضرورة مع الحدود الجغراسياسية بل تتجاوزها إضافة إلى أن « أمور شخصية » يتناول في العمق قضايا تتعلق بفيئة إجتماعية عربية الأصل واللغة والثقافة.


ولكن أهمية ما يطرحه الفيلم تكمن في جانب آخر من هوية الفيلم. يتعلق الأمر بأجيالٍ مختلفة من الفلسطينيين من الجيل الأول إلى الجيل الثالث ولكن بطريقة متميزة بعيدة عن القراءة السياسية أو التاريخية، فالمقاربة « داخلية » أي أن الشخصيات تنخرط في الحياة اليومية. وهي أساسا زوجية فهي تتحرك في تفاعل مع شخصية أخرى، زوجة كانت أو خطيبة أو صديقة، فجاء التركيز على جزئيات علاقة الفرد بالفرد أكثر من علاقة الفرد بالمجموعة. لا يعني أن الفيلم منغلق في منطق سيكولوجية العلاقات العاطفية وإن كانت الجوانب الذاتية مهمة جدّا ولكن ركزت المخرجة على رصد التصرفات العادية بل على المـَواطن الكامنة في خفايا الشخصية والتي تعبّر في صمتها عن الأبعاد الإنسانية للأفراد بما تحمله من إيحاءات إجتماعية وسياسية. فلا تكمن قيمة الأحداث في تسلسلها بقدر ما تكمن في تكرارها مع تغيير طفيف في كل مرّة على منوال الإيقاع الموسيقي أو الشعري. الشيء الذي يجعل المتفرج يقترب من الشخصيات ويتحسسها بعطف بعيدا عن ديماغوجية التماهي المطلق 
ولكن منذ الوهلة الأولى لا يسعنا إلا أن ندرك وقع تأثير سينما إيليا سليمان الأمر الذي لم أقرّته المخرجة التي لم تكتم شكرها له في جينيريك النهاية. لا عار في الإنخراط في في اتجاه معين وفي الإعتراف بالإنتماء إلى سلالة ما والأمر نادر في السينما العربية ولكن العيب في « أمور شخصية » يتمثل في محاكات مبالغ فيها لأسلوب سليمان إلى درجة أنك تشعر أحيانا أنك أمام نسخة باهتة تنقصها نكهة العمل الأصلي. طبعا ذلك هو ثمن محاكات الأعمال الكبرى والأمر يحسب لها وعليها.





الفلم الثالث جاء من لبنان، عُرض في قسم « أسبوع النقد » وهو أول فيلم طويل لفاتشي بولغور جيان. مانفكت السينما اللبنانية تنبش في ذاكرة الحرب الأهلية وأثارها على المجتمع اللبناني. حكاية « ربيع » بسيطة تروي قصّة موسيقي شاب ضرير أدرك وهو يستعد للسفر أنه ليس الإبن البيولوجي لأبويه فانطلق في البحث عن هويته. رمزية الفيلم واضحة وشخصية الموسيقي ربيع مؤثرة ولكن لم يرتق الشريط إلى مستوى العمل الفني المطلوب، وهو على نقيض « اشتباك » : فالسيناريو جيّـد ومراحل البحث تمثل محطات هامة في مسار ربيع وكان الإنتقال من مكان إلى مكان من الناحية الرمزية بمثابة الغوص في الذاكرة تمكن ممثل فاقد للبصر من مرافقة المتفرج في مساءلة حقيقية للتاريخ المعاصر للبنان التي لم تنهي بعد حكايتها مع ماضيها القريب. ولكن جاءت طريقة معالجة الموضوع سطحية سجنَـته في خطّـيةٍ مملة أحيانا.
نشر في "أخبار الجمهورية" في غرة جوان 2016 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire