مقالات بالعربية



تنسى كأنك لم تكن" لرضا التليلي بين العتمة والدفء"



عُرض "تنسى كأنك لم تكن" بقاعة سيني مادار بقرطاج في اطار نادي السينما يوم الثلاثاء 13 فيفري بحضور رضا التليلي مخرج الفلم وعبد الحق بسدوري أحد أبرز شخصياته أمام جمهور غفير ، وأجاب المخرج ورفيقه على الأسئلة التي طرحت عليهما بعد العرض في نقاش أداره إقبال زليلة
انطباعاتنا .لم يقتصر شغل رضا التليلي على فلم أو فلمين. فهو لا يزال يواصل بثبات وجلد وبدون صخباستكشاف طريق خاصّة به، يتساءل باستمرار حول قضايا الثورة التونسية والشباب المناضل والثقافة ومنطقة ولادته. ولم تأت هذه التساؤلات منفصلة ولكنها جاءت دائما مجتمعة في كل عمل من أعماله، مرتبطة ارتباطا مختلفا في كل مرّة
وكان الأمر كذلك في شريطه الأخير "تنسى كأنك لم تكن"، شريطه الطويل الرابع اذ تعلّق الأمر بوضوح بمجموعة من الأصدقاء المناضلين الثوريين والمهشين من شباب سيدي علي بن عون (التي تقع على حوالي 50كلم جنوب سيدي بوزيد) شباب تربطهم علاقة صداقة قوية وولع بالفن المسرحي. يتناول رضا التليلي في هذا العمل أيضا نفس المواضيع ولكن لا بدّ من الإقرار بأن مقاربته لها انبنت هذه المرّة على فكرة هامة قوامها الأساسي مسألة التمثيل في كلّ معانيها، وكانت صديقتنا انصاف ماشطة تناولت هذا الموضوع في مقالها الجميل المنشور يوم 10 فيفري بمجلة نواة والذي كان عنوانه "التمثيل رهان لسياسي وجماليإلا ّ أن المسألة لم تـُطرح بفجاجة ولم تأت نتيجةَ التزام ايديولوجي مزعوم. كانت حاضرة في الآن ذاته ضمن مادّة الفلم نفسه (فالموضوع كان بالتحديد الشباب المهمش) وحاضرة أيضا من خلال الإخراج السنمائي في البحث عن كيفية تصويرهم. فامتدت دلالات الفلم في عمق هذا الهامش الفاصل بين عبثية تغييب هؤلاء الشباب وطموح المخرج في طرح مشروعية اثبات وجودهم
هنا تكمن قوة الفلم، هنا تكمن قوّته الظاهرة، وهي قوة اقتراح سياسي. ولكن نعني بالغياب والحضور الظل والضوء، ظل الصورة وضوئها. وهنا تكمن عظمة الفلم، تكمن في ترجمة المعادلة سينمائيا. وذلك من الوهلة الأولى، اذ يبدأ الفلم في دكّان مظلم تمام الظلمة لا تلجُه النور الاّ من الخلف عبر بابه المفتوح في توليف للإنارة معاكس للعهود، فنحن لسنا في السينما فحسب ولكن داخل الكامرا ذاتها، في بيتها المظلم، حيث ننطلق نحن المشاهدون في متابعة الشريط وتنطلق الشخصيات داخل السيارة، كلّنا في مسيرة الظلمة والقرب، مسيرة العتمة والدفء. وليس من باب الصدفة أن يتمّ ذكر الآلة والمخرج منذ اللحظة الأولى ( انت تْصَوِّر وٍلّا تْمنْطي ؟) تلك هي أوّل الكلمات التي تفوهت بها الشخصيات






تابع رضا التليلي هؤلاء الشباب بل رافقهم من سنة 2013 إلى 2016 في ما تعرضوا له من شدائد وفي غضبهم وفي يأسهم وفي خيبتهم، كما واكبهم في لجوئهم للنشاط المسرحي لمواجهة تلك المصاعب. كان قريببا منهم لصيقا لهم، يصوّرهم عن كثب حتى كدنا لا نرى من محيطهم شيئا

فكان عدد اللقطات البعيدة نادرا باستثناء ما تم تصويره في الفضاء العام بمناسبة الاجتماعات السياسية أو في مشاهد طبيعية كانت بمثابة لحظات انفلات شاعري لم يمتنع رضا التليلي عن التغنّي فيها بشخصياته، لحظات عابرة خفيفة. فما كان "تنسى كأنك لم تكن" فلما عن الشباب ولكن فلما مع الشباب، صوّرهم رضا التليلي وهم يخطبون ويتناقشون في السياسة كما صوّرهم في حياتهم اليومية يمزحون ويأكلون ويغنّون. وكان المزج بين هذه السجلّات مزجا طريفا أنآ بالفلم عن الخطابة المزيفة والمزايدة السياسية، فأخذ السخط أشكالا مختلفة اختلافا كبيرا حسب الشخصيات (النقاشات بين شافي وعبد الحق كانت من أجمل وأروع لحظات الفلم) ولم يأت نتيجة قناعات أيديولوجية مجرّدة ولكن كتعبير منطقي لوضعهم الخاص

كان رضا التليلي دوما منتبها لقضية الفنّ، شعبيا كان (في "جهة ») او ثوريا (في "ثورة غيردرج »)، اذ خصّ المسرحَ هنا بمكانة متميزة، فالشباب فكّروا في بعث جمعية مسرحية، كانوا يعدّون لها في أوقات فراغهم (وهي طويلة)، مسرحية لمْ نلمس منها الاّ القليل، عمل جماعي في منتهى الارتجال. ولكن الواضح المتأكد هو أنها اجتماعية سياسية. وهكذا يمكن أيضا فهم الفلم : على أنه مشروع بعث جمعية ثقافية. فالحكاية انتهت لما تقرر بعث الجمعية في آخر لقاء عمل لأفراد المجموعة. قد لن يتحقق الأمر في الواقع وربما لم يتحقق، لكن القرار جاء خدمة للتركيبة الدرامية للشريط. كان من الممكن أن تكون تركيبة الفلم مغايرة و أكثر تاريخية باعتبار أن الفترة المعنية دامت ثلاث سنوات مليئة بالاحداث
ولكن التمشي كان خلاف ذلك ، فالخيار كان للمشهد (الدرامي) على حساب السرد (التاريخي) عمل مسرحي أكثر منه روائي. وكما أسلفنا، لم يكن المسرح مجرّدَ غرض تيمي بل زادَا استقى منه المخرج قانونا لعمله. فلم يقتصر رضا التليلي على اظهار الشباب وهم يمثلون أدوارا ولكن كانوا يمثلون التمثيل. فالهامش الذي حُكم عليهم المكوث فيه أصبح مسرحا لللعب وملجأ للصداقة والمودّة وملاذا للتعبير الجانبي عن رغباتهم في العمل، في الحياة وفي النساء. وبمناسبة الحديث عن المرأة، فغيابها الذي مانفك كثيرهم يذكره كنقيصة في العمل كان مرتبطا باشكالية التمثيل. استنبط رضا التليلي مبدأه الاساسي في الإخراج من المسافة التي اتخذتها الشخصيات عن وضعها، فسعى يتحرك هنا، في قرب لطيف و محترِم لشخصياته ، في تعاطف معهم خالٍ من أي ديماغوجية، مدركا اختلاف وضعه الاجتماعي وصفته المهنية
فكان حريا بنا أن نرى الرقّة والرشاقة حيث يمكن أن نرى الحماقة والارباك


كان وبعد، حول السينما العربية


شاهدنا منذ سنوات قليلة تطورا في حضور السينما العربية في كانْ، وجاء هذا التطور نتيجةً لانفتاح المهرجان على السينما العالمية عند بعث القرية العالمية سنة 2000 الذي مانفك يتطور من دورة إلى أخرى. كما لاحظنا بعضَ الإهتمام منذ ما سُميّ بالربيع العربي، ولكنّه اهتمامٌ نسبيٌّ جدّا يفتقد للحماس ولمعرفة حقيقية لواقع السينما العربية. من الواضح أنّ هذا التوجُّـهَ كان مرتبطا بتطور سوق الأفلام وباعتبارات جيو استراتيجية. من هنا تأتي ردود فعل عديدِ (لاَ كلِّ) السينمائيين العرب الذين لم يدركوا أن إهتمام المهرجان بالسينما الآسيوية مثلا جاء نتيجةً لتطور الصناعة والتجارة في كوريا وإيران والصين وللأوضاع التي عرفتها هذه المنطقة ولم تكن كما يعتقد البعض  غايتُه الوحيدة متابعةً لتطور الفن السينمائيلذلك نلاحظ عدم الإكتراث بأعمال نَـعرفُ نحن متابعو هذه السينما مستوى جودتها الفنية التي تفوق بكثير ما يُبرمج في مهرجان كانْ. 

لذلك كانت مصر في الصدارة هذه السنة من خلال « اشتباك » الذي  افتتح قسمَ « نظرة ما » وهو شرف كبير إذ يمثل قسم « نظرة ما » ثاني الأقسام الرسميةمحمد ذياب مخرج وكاتب سيناريو ينتمي إلى الجيل الجديد، ثبتت قيمتُـه خاصة مع « 678 ».  يتحلى فيلم « اشتباك » بميزاتٍ عديدة ساهمت بدون شك في اِختياره. موضوعه أولا : منذ « ثورة يناير » أضحى الوضعُ السياسي في مصر محلَّ اهتمام وقد عرض مهرجان كانْ مباشرة ابّان الأحداث شريطَ « 18 يوم » سنة 2011 ثم « بعد الموقعة » ليسري نصر الله سنة 2013، فباختياره « اشتباك » قد واكب المهرجان تسجيلَ السينما المصرية لمجريات الأحداث إذ تدورُ القصّة بُعيد سقوط نظام محمد مرسي. الميزة الثانية للفيلم تكمن في الأداء السينمائي : تدور جلّ الأحداث داخل عربة ترحيلات تابعة للشرطة وعلى الرغم من ذلك تمكن المخرج من تجاوز كل صعاب التصوير خاصة أن التحدي كان مزدوجا. فعلاوة على ضيق المكان كانت الشخصيات متعددةفلا شك أن لجنة الإنتقاء قدّرت براعة المخرج في تعامله مع هذين الأمرين.



ولكن وجب هنا الوقوف قليلا لا للتقليل من أهمية العمل وممّا يستحقّه من تقدير ولكن لإبداء ملاحظة تتجاوز « اشتباك » في حدّ ذاته وتتعلق بالسينما ككل في بلادنا. البراعةُ لازمةٌ ومستحسنة أي لا يمكن الاِستهانة بامتلاك التقنيات وبالقدرة على استخدامها. هذا أمرٌ لا جدال فيه بل وجب الحرص عليه في مدارس السينما وفي الورشات التكوينية وفي كل فضاءات التعليم والتدريب. ولكن عملية الإبداع بمعنى ابتكار الأشكال المناسبة للتعبير عن فكرةٍ ما تخضعُ في رأينا إلى معادلة أخرى لا تقتصرُ على المهارة بل تكون المهارة فيها أمرا طبيعيا تأتي في الشكل المناسب، بارزا كان أو خفيّا، ليعطي لهذه الفكرة أعلى درجة من التعبيرية. اختار محمد ذياب مسألة سياسية وهي علاقة الناس ببعضهم البعض عندما يختلفون أيديولوجيا تحت ضغط الأحداث، اختار إختبار الجانب الإنساني على محك التوتر السياسي وهو موضوع في غاية من الأهميةلمّا وضع هاته المجموعة من الرجال والنساء في حالة درامية قصوى أراد ذياب مساءلة الذات البشرية في عمقها بعيدا على الكليشيهات التي تفرضها علينا السياسة والأيديولوجيا كما يحدث الآن في العديد من البلدان التي تعيش تحولات سياسية. فكان السيناريو مبنيا على المراوحة بين لحظات الجدل السياسي السطحي والتواصل البشري وما يحتويه من مشاعر وأحاسيس يمكن أن تُـبين امكانيةَ الروابط العميقة التي تُأسّس للتعايش. هذا رهان فكري راقٍ يستحق التنويه ولكن مع الأسف اكتشاف المخرج لقدراته في المكوث بالكاميرا أكثر وقت ممكن داخل السيارة لتتبع ما يجري بين الأشخاص من ردود فعل إزاء ضغط الشارع، اكتشافه لقدراته وإدراكه لنجاحه أدى به إلى التغافل على مواصلة الغوص في فكرته الأساسية والسقوط في إعادة الوضعيات وان اختلفت قليلا - التي تجعله يلتجيء لتلك المهارات بل قاده ذلك مع الأسف إلى تبسيط المسألة السياسية إلى درجة أصبحت أحيانا مجرد لعبة فتحولت مشاهدُ العنف في الشارع إلى فرجة للشماريخ. النتيجة هو أن المهارة الشكلية قد تأدي إلى فقدان النوايا الأولية… والنشوة الناتجة عن نجاح العملية التقنية يمكن أن تضفي إلى نتائج عكسية.

الفلم الثاني فلسطيني وهو « أمور شخصية » لمها الحاج وهي مخرجة فلسطينية تعيش تحت دولة اسرائيل. أول مشكلة يتعرض لها الفيلم هي مشكلة الهوية، فهو يحمل رسميا الجنسية الإسرائيلية وهكذا قُـدّم في مهرجان كانْ. ولكنه يحكي قصّة فلسطينية بحتة. هنا تتقاطع السياسة مع الفن، ما يجرنا إلى طرح قضية الهوية في السينما وفي الفن بصورة عامةليس يتعلق الأمر بالسينما الفلسطينية فقط فكم من مرة طُرح السؤال في العديد من المهرجانات العربية حيث تضاربت الآراء دون اِعتبارٍ لتداخل الأطراف في عملية الإنتاج. ولكن طبعا تأخذ مسألة السينما الفلسطينية طابعا خاصا بالنظر إلى تعقّد القضية. النتيجة هي أن الهوية الرسمية لهذا النوع من الأفلام تتغير من بلد إلى آخر وتجعل تخمينات النقاد ذوي الآفاق الذيّقة تدور في حلقة مفرغة لا طائل منها والحال أن الفن يرسُم حدودا خاصة به لا تتطابق بالضرورة مع الحدود الجغراسياسية بل تتجاوزها إضافة إلى أن « أمور شخصية » يتناول في العمق قضايا تتعلق بفيئة إجتماعية عربية الأصل واللغة والثقافة.


ولكن أهمية ما يطرحه الفيلم تكمن في جانب آخر من هوية الفيلم. يتعلق الأمر بأجيالٍ مختلفة من الفلسطينيين من الجيل الأول إلى الجيل الثالث ولكن بطريقة متميزة بعيدة عن القراءة السياسية أو التاريخية، فالمقاربة « داخلية » أي أن الشخصيات تنخرط في الحياة اليومية. وهي أساسا زوجية فهي تتحرك في تفاعل مع شخصية أخرى، زوجة كانت أو خطيبة أو صديقة، فجاء التركيز على جزئيات علاقة الفرد بالفرد أكثر من علاقة الفرد بالمجموعةلا يعني أن الفيلم منغلق في منطق سيكولوجية العلاقات العاطفية وإن كانت الجوانب الذاتية مهمة جدّا ولكن ركزت المخرجة على رصد التصرفات العادية بل على المـَواطن الكامنة في خفايا الشخصية والتي تعبّر في صمتها عن الأبعاد الإنسانية للأفراد بما تحمله من إيحاءات إجتماعية وسياسيةفلا تكمن قيمة الأحداث في تسلسلها بقدر ما تكمن في تكرارها مع تغيير طفيف في كل مرّة على منوال الإيقاع الموسيقي أو الشعريالشيء الذي يجعل المتفرج يقترب من الشخصيات ويتحسسها بعطف بعيدا عن ديماغوجية التماهي المطلق 
ولكن منذ الوهلة الأولى لا يسعنا إلا أن ندرك وقع تأثير سينما إيليا سليمان الأمر الذي لم أقرّته المخرجة التي لم تكتم شكرها له في جينيريك النهاية. لا عار في الإنخراط في في اتجاه معين وفي الإعتراف بالإنتماء إلى سلالة ما والأمر نادر في السينما العربية ولكن العيب في « أمور شخصية » يتمثل في محاكات مبالغ فيها لأسلوب سليمان إلى درجة أنك تشعر أحيانا أنك أمام نسخة باهتة تنقصها نكهة العمل الأصلي. طبعا ذلك هو ثمن محاكات الأعمال الكبرى والأمر يحسب لها وعليها.





الفلم الثالث جاء من لبنان، عُرض في قسم « أسبوع النقد » وهو أول فيلم طويل لفاتشي بولغور جيان. مانفكت السينما اللبنانية تنبش في ذاكرة الحرب الأهلية وأثارها على المجتمع اللبناني. حكاية « ربيع » بسيطة تروي قصّة موسيقي شاب ضرير أدرك وهو يستعد للسفر أنه ليس الإبن البيولوجي لأبويه فانطلق في البحث عن هويته. رمزية الفيلم واضحة وشخصية الموسيقي ربيع مؤثرة ولكن لم يرتق الشريط إلى مستوى العمل الفني المطلوب، وهو على نقيض « اشتباك » : فالسيناريو جيّـد ومراحل البحث تمثل محطات هامة في مسار ربيع وكان الإنتقال من مكان إلى مكان من الناحية الرمزية بمثابة الغوص في الذاكرة تمكن ممثل فاقد للبصر من مرافقة المتفرج في مساءلة حقيقية للتاريخ المعاصر للبنان التي لم تنهي بعد حكايتها مع ماضيها القريب. ولكن جاءت طريقة معالجة الموضوع سطحية سجنَـته في خطّـيةٍ مملة أحيانا.
نشر في "أخبار الجمهورية" في غرة جوان 2016 

مهرجان كان 3 : من كوازي إلى بونيلو، قراءة في بعض أفلام المسابقة الرسمية



لقد شاهدتُ قرابة ثالثين شريطا (رقم متواضع بالنسبة إلى الدورات السابقةولكن هل يمكن الحديث عنها جميعا؟ وإن كان ذلك ممكنا فلن أجد ما يكفي من الحماس للوقوف على بعضهاإذ تفاوتَ اهتمامي بها فضلا على اعتباري أنه من العبث الحديث عن أعمال أعلم علمَ اليقين أنها سوف لن تعرض في بلادنا... لكن كيف يمكن التغافل على البعض الآخر منها و صورُها بقيت وسوف تبقى عالقة في ذهني لما لها من وقع في نفسيأولُها بدون منازع "ستيل ذي واتر" (الماء دائماللمخرجة اليابانية ناومي كاوزي والتي يرجع الفضل في شهرتها إلى مهرجان كان حيث تحصل شريطها الطويل الأول "سوزاكوعلى الكاميرا الذهبية سنة 1997كما فاز "غابة موغاريعلى الجائزة الكبرى سنة  2009

تقول ناومي كوازي في تقديمها للشريط ورد في الملف الصحفي الخاص بالمهرجان ما يلي : « أتمنى أن يدرك المشاهدون أننا نحن البشر لسنا مركز كل الأشياءلسنا إلا جزءا من دورة الطبيعةأردت بناء حكاية تجرنا إلى ادراك أن هذه الدورة العظيمة التي تضمُّـنا هي إلاهية في جوهرهاإن روحنا معقدة وغامضة ولا يمكن توقعها. » يروي ’’الماء دائما’’ قصة شابين كايتو وصديقته كيوكو لحظة ارتقائهما الى الوعي بالحياةتدور الأحداث في جزيرة أمامي اليابنية حيث تكتشف كيوكو في نفس الوقت الموت والحب، موت والدتها وحب كايتو... ولكن يستحيل تقديم الشريط بالإقتصار على تلخيص الأحداثفاذا اقتصرنا على الأحداث قد يُفهم الشريط على أنه سيكولوجي، رومنسي أو سوسيولوجي كما هو الشأن غالبا في الأعمال التي تروي مثل هذه القضايالكن الأمر يختلف تماما هنافالمعالجة بعيدة كل البعد عن المنطق الوضعي الذي يحكم السرد الواقعي والذي يتمثل في ربط الأحداث ربطا خطيا سببيا يفسّر ارتباطها ببعضها البعض سواء كانت المسببات اجتماعية أو نفسية ان الخيط الرابط (إن صحت العبارة وقد لا تصحفي السرد خيط دائري لا تقتصر الحركة فيه على البشر وإنما على الكون برمـّته فالأرض والبحر والسماء أي الأشجار والماء والهواء كائنات تلعب دورا أساسيا في تطور الأحداث أي تساهم في العشق والإدراك الموجع لفقدان القريبشريط يملأه صمتٌ هادئ هو درجة عالية في التواصل بين الكائناتقيمتُه تكمن في اقتراحه الفلسفي، في إنسانية بديلة لا غربية ولا شرقية إنسانية جدّ معاصرة تعيد النظر بهدوء في الفكر السائد انطلاقا من تجربة شخصية (تجدر الإشارة إلى أن جزيرة أمامي هي أرض أجداد ناومي كوازي، أمر اكتشفته منذ عشر سنوات فقط)، هنا تكمن قيمة الشريط، في تجذّره الذاتي والإقليمي ما يعطي مصداقية لبعده الكوني

فاز "فوكسكاتشربجائزة أفضل إخراج وحسَنا فعل أعضاء لجنة التحكيمإذا كان "الماء دائماعملا بديلا مختلفا اختلافا تاما مع المعهود ف"فوكسكاتشرعمل كلاسيكي مطابق للإنتاج الأمريكي، وهذا ليس عيبا في حد ذاتهبل هنا يكمن جمال الفن السينمائيكثيرون هم من يعتقدون أن المقياس الفاصل بين الشريط الجيد والشريط الرديء هو مدى ابتعاده على الكلاسيكية وهذا في نظري خطأ شائع وخطيرفقد يبتعد العمل عن الأشكال المنمطة دون أن يرتقي إلى مستوى الجودة الفنية أو الطرافة التي لا بد أن تتوفر في أي أثر فني، تماما كما يمكن لأي عمل أن ينخرط في منظومة ثقافية مؤسساتية أو اقتصادية دون أن يفقد روحه الإبداعية وهذا طبعا صعب جدّاوينسحب نفس المنطق على الأعمال الملتزمة فالتزام صاحب الشريط أو تعبيره على التزامه ليس شرطا كافيا لضمان قيمة سينمائية
هذا رأي شخصي طبعا وينطبق تماما على شريط "فوكسكاتشرلبينيت ميلروهو من مواليد ١٩٦٦ وعرف خاصة بشريطه "ترومان كابوت"٢٠٠٥ الذي نال إعجاب النقاد والمشاهدين للسبب نفسه الذي جعل "فوكسكاتشريحصل على هذا التقدير في كان أي لقدرة صاحبه الفائقة على تحويل الوثائقي إلى روائي دون المس بصحة الوثيقة بل ارتقى إلى جوهرهاينطلق بينت ميلر من أحداث واقعية جمعت بين ماك شولتز الذي الفائز على الميدالية الذهبية الأولمبية في المصارعة وجون دي بون واحد من كبارالأثرياء في أمريكايقرر البطل الأولمبي التحول إلى ملكية شولتز بطلب من هذا الأخير تاركا منزله المتواضع وأخيه دافيد الذي تربطه به علاقة قوية تكاد تكون أبويةيتمثل حجرزاوية البنية الدرامية في فراق الأخ الحنون للإرتماء في أحضان الأب الراعي ولكن يتبين شيئا فشيئا أن الموضوع أعقد بكثير مما يمكن أن يتصوره المرءففي حنان الأخ لُبسٌ لا يظهر للعيان كما أن رعاية "الأبتخفي نزعة نرجسية مقيتةمرة أخرى لا يمكن لسرد الأحداث إعطاء بيّنة على قوة الشريط فالمعنى يتشكل تدريجيا من خلال متابعة للشخصيات نادرة في هذه النوعية من الأفلامالمهارة ليست في خدمة نرجسية المخرج وإنما هي مصخرة كلُّها في التقاط اشارات لا تدركها العين المجردة، اشارات ترسم ملامح عميقة في تركيبة الشخصيات تتقاطق فيها الإختلالات النفسية مع نزعات سلطوية تحيل في آخر تحليل إلى نشأة الهيمنة والجبروتشريط سياسي في أساسه غير مبني على الإيديولوجيا وانما على أهمية فتج البصيرةقراءة في جوانب هامة من الحضارة الأميريكية العصرية

يمكن في نفس السياق التعرض لشريط برتران بونيلو المخرج الفرنسي "سان لوران". فتماما كزميله ميلر يتناول بونيلو شخصيةً حقيقية ولكنها أشهر بكثير من شخصية شولتز وجون دي بون، وهنا تكمن الصعوبة لأن سان لوران يـُعدّ من أبرز الشخصيات الفرنسية وهو مصمم أزياء ذاع صيته في العالم بأسرهفي الندوة الصحفية التي أدلى بها إثر العرض الصباحي للشريط يقول المخرج إن الفلم الروائي الذي يروي قصّة شخصية واقعية هو بمثابة النحت على الجبل خلافا للفلم الروائي الخيالي الذي مثـّله بالبناء في الصحراءالإستعارة جميلة وتعبر على صعوبة العملية خاصة إذا كانت الصخرة فخمة كشخصية سان لورانبونيلو سينمائي يصحّ استعمال كلمة النحت للتعبير عن أسلوبه فالجانب التشكيلي يحتل مكانة هامة في كل أعماله إلى حد نفي السرد كما هو الشأن في فلمه قبل الأخير "ابولونيدالذي عرض في كان أيضا سنة ٢٠١١ولكن السرد ضروري في هذا الشريط، شريط يمكن تلخيصه في الصراع بين ضخامة الشخصية وثقلها الإعلامي من ناحية وقدرة كاميرا بونيلو على الصقل من ناحية أخرىلكن ليست العملية مجردَ مهارة فنية بقدر ماهي رسمٌ لصورة شخصية تمكن المخرج من خلال رصد ملامحها من التماس بعض الإشارات المتعلقة بالمرحلة التاريخية مرحلة السبعينيات التي عاش فيها سان لوران وما تحمله من تحولات حضارية كبرى


تمكنت أخيرا من مشاهدة "تنبوكتوأثناء عرضه يوم السبت 24 ماي، آخر أيام المهرجانأدركت حينها كم كان النقاد محقين في دفاعهم عن الشريطلعبد الرحمان سيساكو مكانة خاصة في المشهد السينمائي الإفريقي، فهو إلى جانب التشادي محمد صالح هارون من أهم مخرجي جيلهاتسمت أعماله منذ بداياته بشاعرية نادرة في السينما الإفريقية لم تثنه على تناول قضايا القارةوتكمن فعلا قيمته في طبيعة هذا المزج بين جمالية قد تفهم على أنها فلكلور يذكر بالرؤية الإستعمارية أو الإستعمارية الجديدة والحقيقة أن مقاربة سيساكو السينمائية تتجاوز ذلك بكثيرفمن جهة لم يخلو أي عمل من أعماله منبعد سوسيولوجي وسياسي يدلّ على وعي حاد بقضايا الإنسان والشعوب الإفريقية ومن جهة أخرى ـ وهذا أهم ـ يتميز سيساكو بطبيعة نظرته للواقع، من حيث اختياره للمسافة التي تفصله (أوتربطهبموضوعهلا يعتمد سيساكو التحليل العلمي لمظاهر المجتمع أو السياسة كما لا يلقي بأحكام انطلاقا من هذا التحليل فهو ينخرط في تيار ما بعد صمبان عصمان كما أنه لا يعتمد اعادة كتابة التاريخ في شكل جديد يؤسس للهوية الإفريقية كما فعل مثلا سليمان سيسي لكنه اختار الدقة في تحديد المسافة التي تمكنه من البحثفالحركة أساسية في أعماله، حركة الشخصيات التي كثيرا ما تكون في حالة جولان سواء من بلد إلى بلد (روستوف ـ لوانداأو في مكان واحد (الحياة على الأرضوحركة الكامرا (حركة الترافلين مهمة جدا في جل افالمه ما يجعله يقترب إلى حد ما من فيم فندرس في مرحلته الأولى)، سيساكو يبحث متنقلا لا ناسخا، متنقلا من موقع إلى موقع لا ناسخا لواقع معلوم، الأمر الذي يعطي للفضاء مكانة مركزيةمن هنا يأتي المنحى التشكيلي في جماليته، يأتي من اشتغاله على الفضاءفالإخراج عنده استكشاف للفضاء، لفضاء القارة
فبالرغم من موضوعه السياسي لا يختلف "تنبوكتوعن أعماله الأخرى بل تكمن قيمته في قدرة صاحبه الفنية على مقاومة الثقل الإعلامي لمسألة التشدد الديني والإرهابلم يراوغ سيساكو في تعرضه للوحشية التي ذهب ضحيتها العديد من البسطاء الذين أجبروا على التخلي على عاداتهم في اللباس والمعاملات اليومية وتعاطي النشاطات الفنيةفلم يمتنع المخرج من تصوير مشاهد في غاية من العنف كرمي المرأة بالحجارة لكن لا سبيل للعنف أن يفرض سلطانه على التوازن العام للشريطانطلق سيساكو من مأساة عرفها المالي في منطقة تنبكتو وأبى إلا أن يتعرض لها وواجه صعوبات جمة في ذلك وفي الوقت نفسه اختار وجهة نظر بعيدة كل البعد على نمطية وسائل الإعلامفقوة الشريط تكمن مرة أخرى في المسافة التي حددها موقعُ سكنى الشخصيات الرئيسيةعائلة بسيطة تعيش بعيدا عن المدينة في سكينة البدو، فإذا بخلاف يطرء مع بحار يكون سببا في تدخل سلطة الميليشيات الجهاديةمن هنا تبدأ الحكايةتحكم هذه المسافةُ أساسَ العمل مما مكـّن الراوي من مقاربة مزجت بين السياسة والشاعرية مزجا نادرا في السينما الإفريقية فلم تكن الأحداثُ أصلَ البنية بل جاءت لتخل بنسق نظام داخلي خفِيّ يكشف المخرجُ أحيانا بعضا من جوانبه في لحظات سحرية لا تقدر إلا كامرا سيساكو على التماسها
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشاب التونسي سفيان الفاني هو من أدار التصوير فأحسن وكان قد تألق من قبل في شريط عبد اللطيف كشيشفتحية له
كان العديد من النقاد ينتظرون أن يتحصل "تنبكتوعلى جائزة وهناك من كان بعتقد أنه يستحق
الجائزة الكبرى لكن مع الأسف لم يتعرض نص لجنة التحكيم حتى لذكر ه  ولكن تلك قضية أخرى


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


قراءة سريعة في قائمة الجوائز :

كانت نتائج مداولات لجنة التحكيم إجمالا فاترة، مخيبة للآمال في جانب ومتناقضة مع انتظارات النقاد في جوانب أخرى
لنقل أولا إنه من العبث إعطاء مسالة الجوائز قيمة أكبر مما تستحق فلا يصح تقييم الأعمال على أساسها كما لا يمكن اعتبارها مرآة صادقة لاختيارات المهرجان الفنية لأنها عادة ما تكون نتيجة أخذ وعطاء بين مختلف أعضاء اللجنة وحصيلة مساومات لا تستفيد منها بالضرورة الأفلام التي فضلها كل عضو على حدة
يبقى أنه خلافا لما حدث السنة الفارطة جاءت الجائزة الأولى أي السعفة الذهبية مغايرة تماما لتوقعات المتابعين رغم إشادة النقاد بشريط نوري بيلجين جيلان "سبات شتوي"لم يكن هذا الأخير المترشحَ الأكثرَ حظوظا، لكنه من دورة إلى أخرى تأكدت قيمته وبات محلّ إجماعإذ أكد الشريط أسلوب المخرج الَتركي فلم يخلُ ـ في تقديري الخاص ـ من ثقل ناتج عن استعراض نرجسي(لكنه ذكيلوعي المخرج بطرافة مقاربتهفطغت مهارة المؤلف على جرأة المبدع.
المفاجأة الأخرى تمثلت في جائزة لجنة التحكيم الكبرى التي كانت من نصيب فلم "الروائعلإيلتسشا رورفاخر الإيطاليةفبقدر ما كانت الصحافة الفرنسية مرحبةً بالفيلم كان النقاد الإيطاليون أقل تحمسا له، ولكن في كل الحالات لم تكن المخرجة الإيطالية من الأسماء التي تداولتها الألسن في التوقعات الأخيرةربما لعب جنس المخرجة هنا دو را اذا اعتبرنا أن رئيسة اللجنة واغلبية اعضاءها نساء ، وحتى في هذه الحال كان بالإمكان اختيار شريط المخرجة اليابانية ناومي كاوزي"الماء دائماالذي كنت اعتقد شخصيا أنه من أفضل أفلآم المسابقة بل أفضلهامن مفارقات الصدف تقاربُ الفلمين في الموضوع (علاقة الإنسان بالطبيعةلكن مع اختلاف شاسع في المعالجة فبقدر ما كانت خلفية "الروائعاجتماعية سياسية معقدة كانت شريط "الماء دائمامجردا وشعريا ميطافيزيقيا عميقا

ربما أكثر ما لفت الإنتباه وأفضى على قرار اللجنة نوعا من الطرافة هو فوز جون لوك غودار (وداعا للغةعلى جائزة لجنة التحكيم الخاصة بالتساوي مع غزافيي دولان الكندي (أمي)، ففي الجمع بين اكبر مخرج وأصغرهم سنا رسالة اعتقدت اللجنة أنها ستنال استحسان الإثنين، قد يستحسنها المخرج السويسري اذا قرأها على أنها تقديرا لديمومة شبابه (ويبدو حسب المنتج ألان صارد أن الأمر كان كذلككما قد يستحسنها بدون شك المخرج الكندي ـ وقد صرح بذلك فعلا أثناء حفل الجوائزـ ففي اقتران اسمه بغودار مدعاة للافتخار


أما "فوكس كاتشرللسينمائي الأمريكي بينت ميلر فقد تحصل على جائزة أفضل اخراج وليس في ذلك ما يدعو للنقد حيث كان الشريط فعلا في درجة عالية من الإتقان الفني ومن الحنكة في الإخراج وإدارة الممثلينمما أعطى لأسلوبه الكلاسيكي رونقا وأناقةلا يمكن معرفة ما جال ببال أعضاء لجنة التحكيم لكن في الأمر فائدة بالنسبة للمسؤولين على المهرجان لأن المنتجين الأمريكيين مستاؤون من تقبل كان لأفلامهم اذ عزف كثيرهم عن المشاركة ربما تكون هذه الجائزة إشارة إيجابية تجعلهم يغيرون رأيهم في الدورات القادمة

تحصل شريط "ليفياتانللمخرج الروسي آندري زفياجنتسكي على جائزة السيناريو ولكن من الصعب تبرير هذا الإختيار الذي يبدو ناتجا (والقول تخمين شخصيعلى مساومات داخل اللجنة لأن كتابة العمل لم تكن بالضرورة أفضل ما يتميز به الشريطقد تكمن ميزته في عمق نقده للواقع السياسي الروسي وقد يكون ذلك حاسما وهو أرجح لأن البعد الإجتماعي السياسي كان طاغيا على النتائج




أما الأفلام التي لم تتحصل على شيئ والجديرة بالفوز فعددها يتجاوز الثلاث على الأقللنا عودة لذلك,

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire