samedi 7 juin 2014

مهرجان كان 3 : من كوازي إلى بونيلو، قراءة في بعض أفلام المسابقة الرسمية


لقد شاهدتُ قرابة ثالثين شريطا (رقم متواضع بالنسبة إلى الدورات السابقة) ولكن هل يمكن الحديث عنها جميعا؟ وإن كان ذلك ممكنا فلن أجد ما يكفي من الحماس للوقوف على بعضها, إذ تفاوتَ اهتمامي بها فضلا على اعتباري أنه من العبث الحديث عن أعمال أعلم علمَ اليقين أنها سوف لن تعرض في بلادنا... لكن كيف يمكن التغافل على البعض الآخر منها و صورُها بقيت وسوف تبقى عالقة في ذهني لما لها من وقع في نفسي. أولُها بدون منازع "ستيل ذي واتر" (الماء دائما) للمخرجة اليابانية ناومي كاوزي والتي يرجع الفضل في شهرتها إلى مهرجان كان حيث تحصل شريطها الطويل الأول "سوزاكو" على الكاميرا الذهبية سنة 1997, كما فاز "غابة موغاري" على الجائزة الكبرى سنة  2009

تقول ناومي كوازي في تقديمها للشريط ورد في الملف الصحفي الخاص بالمهرجان ما يلي : « أتمنى أن يدرك المشاهدون أننا نحن البشر لسنا مركز كل الأشياء. لسنا إلا جزءا من دورة الطبيعة. أردت بناء حكاية تجرنا إلى ادراك أن هذه الدورة العظيمة التي تضمُّـنا هي إلاهية في جوهرها, إن روحنا معقدة وغامضة ولا يمكن توقعها. » يروي ’’الماء دائما’’ قصة شابين كايتو وصديقته كيوكو لحظة ارتقائهما الى الوعي بالحياة. تدور الأحداث في جزيرة أمامي اليابنية حيث تكتشف كيوكو في نفس الوقت الموت والحب، موت والدتها وحب كايتو... ولكن يستحيل تقديم الشريط بالإقتصار على تلخيص الأحداث. فاذا اقتصرنا على الأحداث قد يُفهم الشريط على أنه سيكولوجي، رومنسي أو سوسيولوجي كما هو الشأن غالبا في الأعمال التي تروي مثل هذه القضايا, لكن الأمر يختلف تماما هنا. فالمعالجة بعيدة كل البعد عن المنطق الوضعي الذي يحكم السرد الواقعي والذي يتمثل في ربط الأحداث ربطا خطيا سببيا يفسّر ارتباطها ببعضها البعض سواء كانت المسببات اجتماعية أو نفسية , ان الخيط الرابط (إن صحت العبارة وقد لا تصح) في السرد خيط دائري لا تقتصر الحركة فيه على البشر وإنما على الكون برمـّته فالأرض والبحر والسماء أي الأشجار والماء والهواء كائنات تلعب دورا أساسيا في تطور الأحداث أي تساهم في العشق والإدراك الموجع لفقدان القريب. شريط يملأه صمتٌ هادئ هو درجة عالية في التواصل بين الكائنات. قيمتُه تكمن في اقتراحه الفلسفي، في إنسانية بديلة لا غربية ولا شرقية إنسانية جدّ معاصرة تعيد النظر بهدوء في الفكر السائد انطلاقا من تجربة شخصية (تجدر الإشارة إلى أن جزيرة أمامي هي أرض أجداد ناومي كوازي، أمر اكتشفته منذ عشر سنوات فقط)، هنا تكمن قيمة الشريط، في تجذّره الذاتي والإقليمي ما يعطي مصداقية لبعده الكوني

فاز "فوكسكاتشر" بجائزة أفضل إخراج وحسَنا فعل أعضاء لجنة التحكيم. إذا كان "الماء دائما" عملا بديلا مختلفا اختلافا تاما مع المعهود ف"فوكسكاتشر" عمل كلاسيكي مطابق للإنتاج الأمريكي، وهذا ليس عيبا في حد ذاته. بل هنا يكمن جمال الفن السينمائي. كثيرون هم من يعتقدون أن المقياس الفاصل بين الشريط الجيد والشريط الرديء هو مدى ابتعاده على الكلاسيكية وهذا في نظري خطأ شائع وخطير. فقد يبتعد العمل عن الأشكال المنمطة دون أن يرتقي إلى مستوى الجودة الفنية أو الطرافة التي لا بد أن تتوفر في أي أثر فني، تماما كما يمكن لأي عمل أن ينخرط في منظومة ثقافية مؤسساتية أو اقتصادية دون أن يفقد روحه الإبداعية وهذا طبعا صعب جدّا, وينسحب نفس المنطق على الأعمال الملتزمة فالتزام صاحب الشريط أو تعبيره على التزامه ليس شرطا كافيا لضمان قيمة سينمائية
هذا رأي شخصي طبعا وينطبق تماما على شريط "فوكسكاتشر" لبينيت ميلر. وهو من مواليد ١٩٦٦ وعرف خاصة بشريطه "ترومان كابوت"٢٠٠٥ الذي نال إعجاب النقاد والمشاهدين للسبب نفسه الذي جعل "فوكسكاتشر" يحصل على هذا التقدير في كان : أي لقدرة صاحبه الفائقة على تحويل الوثائقي إلى روائي دون المس بصحة الوثيقة بل ارتقى إلى جوهرها. ينطلق بينت ميلر من أحداث واقعية جمعت بين ماك شولتز الذي الفائز على الميدالية الذهبية الأولمبية في المصارعة وجون دي بون واحد من كبارالأثرياء في أمريكا. يقرر البطل الأولمبي التحول إلى ملكية شولتز بطلب من هذا الأخير تاركا منزله المتواضع وأخيه دافيد الذي تربطه به علاقة قوية تكاد تكون أبوية. يتمثل حجرزاوية البنية الدرامية في فراق الأخ الحنون للإرتماء في أحضان الأب الراعي ولكن يتبين شيئا فشيئا أن الموضوع أعقد بكثير مما يمكن أن يتصوره المرء. ففي حنان الأخ لُبسٌ لا يظهر للعيان كما أن رعاية "الأب" تخفي نزعة نرجسية مقيتة. مرة أخرى لا يمكن لسرد الأحداث إعطاء بيّنة على قوة الشريط فالمعنى يتشكل تدريجيا من خلال متابعة للشخصيات نادرة في هذه النوعية من الأفلام, المهارة ليست في خدمة نرجسية المخرج وإنما هي مصخرة كلُّها في التقاط اشارات لا تدركها العين المجردة، اشارات ترسم ملامح عميقة في تركيبة الشخصيات تتقاطق فيها الإختلالات النفسية مع نزعات سلطوية تحيل في آخر تحليل إلى نشأة الهيمنة والجبروت. شريط سياسي في أساسه غير مبني على الإيديولوجيا وانما على أهمية فتج البصيرة. قراءة في جوانب هامة من الحضارة الأميريكية العصرية

يمكن في نفس السياق التعرض لشريط برتران بونيلو المخرج الفرنسي "سان لوران". فتماما كزميله ميلر يتناول بونيلو شخصيةً حقيقية ولكنها أشهر بكثير من شخصية شولتز وجون دي بون، وهنا تكمن الصعوبة لأن سان لوران يـُعدّ من أبرز الشخصيات الفرنسية وهو مصمم أزياء ذاع صيته في العالم بأسره. في الندوة الصحفية التي أدلى بها إثر العرض الصباحي للشريط يقول المخرج إن الفلم الروائي الذي يروي قصّة شخصية واقعية هو بمثابة النحت على الجبل خلافا للفلم الروائي الخيالي الذي مثـّله بالبناء في الصحراء, الإستعارة جميلة وتعبر على صعوبة العملية خاصة إذا كانت الصخرة فخمة كشخصية سان لوران, بونيلو سينمائي يصحّ استعمال كلمة النحت للتعبير عن أسلوبه فالجانب التشكيلي يحتل مكانة هامة في كل أعماله إلى حد نفي السرد كما هو الشأن في فلمه قبل الأخير "ابولونيد" الذي عرض في كان أيضا سنة ٢٠١١, ولكن السرد ضروري في هذا الشريط، شريط يمكن تلخيصه في الصراع بين ضخامة الشخصية وثقلها الإعلامي من ناحية وقدرة كاميرا بونيلو على الصقل من ناحية أخرى. لكن ليست العملية مجردَ مهارة فنية بقدر ماهي رسمٌ لصورة شخصية تمكن المخرج من خلال رصد ملامحها من التماس بعض الإشارات المتعلقة بالمرحلة التاريخية مرحلة السبعينيات التي عاش فيها سان لوران وما تحمله من تحولات حضارية كبرى